كيف نجا المولود "احمد" ووالدته من الموت عدة مرات
لم تكن صورة البطولة والتضحية التي صاغها ابطال معركة مخيم جنين ومجاهدوه هي الصور الوحيدة التي نسجت راية الملحمة ،بل ان هنالك قصصا وحكايات نسجها رجال ونساء مدنيون عبرت في احداثها وعمق مواقفها عن اسطورة هذا الشعب وصبره وثباته بشكل مثير ،ولعل ترداد قصة السيدة حنان ابو الرب التي كانت في مسيس الحاجة لوحدات من الدم بعد ميلادها العسير فعرض عليها جنود الاحتلال تلك الوحدات اللازمة من الدم فترفض بشدة كرفض المجاهدين والمقاومين في مخيم جنين التراجع ،وتصميمهم المضي إلى الشهادة والخلود .
وصلنا مساء الى غرب المخيم ،حيث دخلنا ذلك البيت،فتجمهر حولنا ثمانية اطفال اصغرهم اسمه احمد عمره من عمر الاجتياح الكبير اجتياح نيسان عام 2002،كان بصحة جيدة يلهو ويلعب ولا يعلم انه وامه قد تعرضا للموت عدة مرات لكن الله سلم .
المخاض الطويل
تقول السيدة حنان ابو الرب(40 عاما ) امها كانت قد اكملت شهرها التاسع من الحملمع بداية شهر نيسان عام 2002، وعندما بدأ الاجتياح التزمت مع اطفالها وزوجها البيت في جو مخيف ومرعب ،فعشرات الدبابات كانت قريب المنزل تقصف المخيم من الجهة الغربية، وفي اليوم التاسع شعرت بألم المخاض فقررت الخروج من البيت والتوجه غربا للتجمع السكاني المجاور المسماه واد برقين،لعل الميلاد يكون سهلا، وبعد ان امضت ليلة في تلك المنطقة عادت إلى اطفالها المفزوعين، وهنا اشتد كما تقول السيدة حنان معي الالم ،فتسللت الى منزلها ثلاث نساء من الجيران احداهن تدعى "ام احمد خليل " كانت تتقن اللغة الانجليزية ،فقررن نقلي الى المشفى الرئيسي في المدينة المجاور للمخيم من الجهة الشرقية،بعدما ادركن صعوبة وضعي الصحي ورافقنني الى المشفى رغم الجحيم الذي يلف المنطقة حولنا .
الحواجز السبعة
المسافة بين منزل السيدة حنان والمشفى لا تتعدى 2 كليومتر ،لكنها محفوفة بالموت والدمار ........، سارت النسوة الاربع بإتجاه ازقة المخيم يحملن راية بيضاء خوفا من تعرضهن للموت برصاص الجنود الاسرائيليين،اعترضتهن الدبابات الاولى، وبعد جدال طويل ،سمح لهن بالدخول لازقة المخيم من الجهة الغربية،تضيف السيدة حنان وبعد امتار معدودة من دخولنا المخيم شاهدنا جثة الشهيد العجوز محمود الحمدوني (72عاما ) كان منظرا مرعبا وعلى بعد عدة امتاركانت هناك ساق لقتيل ملقاه على الارض،...اصتدمنا ثانية بفرقة اخرى من الجيش المحتل،فأعادونا من حيث اتينا،لكننا وعلى وقع تزايد الالم اصرينا على التقدم فسرنا بإتجاه مدرسة الوكالة الابتدائية للبنات، وهناك اعترضتنا فرقة اخرى امطرونا بوابل من الرصاص تطار من فوق رؤوسنا وامامنا وحولنا ،هربنا على عجل وتوجهنا الى اعلى ومررنا بالقرب من منزل السيد خالد السعدي وهناك راينا خمسة جثث لمقاتلين وقد مزقتهم القذائف،ثم عطفنا الى وسط المخيم إلى حارة الحواشين حيث راسنا الجرافات العملاقة والتي تزيد عددها عن العشرة وهي تقوم بجرف البيوت على من فيها ،تسلقنا اكوام الركام،وتوجهنا الى الساحة الرئيسية في المخيم وهناك اعترضتنا فرقة اخرى،قام ضباظ وجنود هذه الفرقة بتهديننا بالقتل ،وكان الالم يشتد معي وام احمد خليل تترجم بشكل شاق لتوضح حالتي، وبعد دقائق قاسية مرت علينا سمحو لنا بالمرور للمستشفى بشرط ان نسلك الطريق الخارجي،فتعجنا الخطى ومررنا بأرتال الدبابات حتى وصلنا الى مسافة 100 مترمن باب المشفى الذي كان يعج بالدبابات، وفي هذه اللحظة قفز من الدبابات عدد من الجنود واخذوا مواقع ومواضع قتالية وهم يسددون نحونا فوهات البنادق وصرخو بواسطة مكبرات الصوت لا تقتربوا ولا نطلق النار.........وطالبونا بالجلوس ارضا على الفور، صرخت مرافقتي ام احمد خليل باللغة الانجليزية وههي تشرح حالتي،فلم يكترثوا لها،حتى خرج متطوع الماني الجنسية من جمعية الهلال الاحمر المجاورة وتقدم نحو الجنود وتحدث معهم فإتفقوا معه على ان اتقدم وحدي برفقته وانت تذهب باقي النسوة الى الجمعية المجاورة وعندما اقتربت من الدبابات التي تسد باب المشفى صرخ احد الضباط:- ارفعي جلبابك لنتأكد انك حامل وانك لا تخفين العبوت !! واضاف صارخا :- انكم مخيم ارهابيين !! ....... رفضت بشدة تقول السيدة ابو الرب ، حاول المتطوع الالماني اقناعي بعد ان هددونا بإطلاق النار ،رفضت بشدة اكبروصرخت ،فترجلاحد الضباط من الدبابة وضربني ببندقتيته فوقعت على الارض ليصدم رأسي بعامود الكهرباء فأغمي عليّ.
ميلاد عسير
في المشفى استفقت على جمهرة الاطباء والممرضات الذين شرعوا بتقديم الاسعافات الاولية لي ، وبعد أن قام الطبيب النسائي بفحصي قال لابد من إجراء عملية جراحية لإخراج الجنين،مدير المستشفى صُعِق... لا يوجد ماء ولا كهرباء ولا غاز،وإن حياتها في خطر مالم يتم اخراج الجنين فورا بشكل طبيعي ،فلا مجال لاجراء العملية !!!
فنقلت فورا لقسم الولادة وبعد دقائق معدودة تعرضت غرفة الولادة التي امكث فيها لقصف مدفعي من الدبابات المحيطة بالمستشفى وقد الحقت القذيفة دمارا واسعا ونجوت من الموت بأعجوبة ،وبدأت معي رحلة من المخاض العسير استمرت 48 ساعة من النزيف الحاد وارهاق شديد وألم لا يحتمل، ومع انتصاف ليل اليوم الثاني جاء الفرج من الله وعندما اوشكت على الميلاد تعرض المنزل المجاور للمشفى والذي يملكه ابو حسن للقصف بالقذائف المدفعية والحارقة ، فذهلت وكاد طفلي ان يموت من وقع ردة فعلي ،لكن حسن تصرف احد الممرضين العفوية برعاية الله ولطفه ساعد على نجاتي وطفلي من الموت المحقق .
العودة الى المنزل
بعد ليلة طويلة ،بزغ نور الفجر ،فشرع مدير المشفى الدكتور محمد ابو غالي بإجراء محادثات واتصالات مع قوات الجيش التي تحيط بالمشفى للسماح لي بالعودة الى منزلي،وقد استغرقت العملية عدة ساعات وافق جيش الاحتلال بعدها على عودتي للمنزل برفقة ممرضتين من سكان المخيم فسرنا في ازقة المخيم حيث الدمار والخراب، وعندما هممت بالخروج من المخيم صوب المنطقة الغربية حيث منزلي اقتربت من ثلاث دبابات كبيرة وحاصرتني وطلبوا مني القاء ما بيدي يقصدون الطفل الوليد ،فقلت لهم انه طفلي الذي لم يتجاوز عمره الـ24 ساعة ،فقالوا :- انت تكذبين ، ما تحملينه هو عبوات او متفجرات !!! انتم مخيم ارهابيين ، وبعد جدال طويلاطلقوا النار فوق رأسي وطالبوني بالعودة من حيث أتيت، الى داخل المخيم الذي فرغ من اهله تماما، ولم يبقى الا الجرافات الضخمة التي تسوى بيوته بالارض،عدت الى الخلف فشعرت بدوار وأغميّ على فوقع مني الطفل وتحدرج بعيدا وهو يصرخ ولم اصحو إلا عندما قام احد الجنود بضرب راسي بحجر ،فسمعت صوت ابنتي ميس التى كانت وقتها ابنة الستة عشر عاما، وهي تحاول التقاط اخيها الوليد من على الارض،وقد احاط الجنود بذلك الوليد بالبنادق،لم يحتمل الجيران هذا المنظر ،فتقدمت جارتنا ام معاذ رغم الخطورة الكبيرة على حياتها،وتجرأت وتحدثت بالانجليزية مع الجنود قائلة :-ان الطفل وامه سيموتون ان بقوا على هذا الوضع ،واخيرا وافق الجنود على مرافقتي الى المنزل بعد ان فتشوا الطفل عدة مرات وتأكدوا انه طفل رضيع وليس متفجرات !!!.
عدت الى المنزل ودخل معي الى البيت اكثر من عشرين جنديا وضابط،اطفالي اصيبوا بالهلع والخوف الشديد، تقدمت مني ابنتي وهمست في اذني تخبرني ان هناك مقاومين مسلحين في منزلنا وهما يتحصنان في غرفة الغسيل اعلى المنزل ،وان الجيش يهم بالصعود الى سطح المنزل الامر الذي ينذر بمعركة وشيكة،ازاء هذا الوضع كان لا بد لي ان اتصرف رغم حالتي الحرجة ،تظاهرت بوجود الم شديد وبدأت اصرخ بشدة ،تجمهر الجنود حولي .... طلبت منهم ان يرسلوا لي الممرضة ام معاذ ... فوافقوا على عجل من شدة صراخي وهم يكيلون لي الشتائم والسباب ... ذهب ابنتي وطلبت من ام معاذ ان تأتي بسرعة ... فأتت وهمست بأذهنا بعد ان تراجع الجنود الى الخلف ...ففهمت قصدي وخاطبت الضابط المسؤول قائلة :- اذا اردت ان يتوقف صراخها اخرج جنودك من المنزل ،لان منظرهم يزيد من سوء حالتها شيئا فشيئا وقد تموت .... فوافق الضباط وانسحب الجنود الى خارج المنزل ،فصعدت ام معاذ الى سطح المنزل خلسة وأخبرت المقاومين بطريقة آمنه للانسحاب قبل ان يقتلا على يد الجيش المحتل .
رفضت وحدات الدم
وتضيف السيدة حنان ابو الرب وهي تتذكر تلك اللحظات القاسية بشيء من الحزن العميق،بعد ذلك عاد الجيش مرة ثانية ولكن هذه المرة برفقة طبيب عسكري قام بفحصي وقال :- انها بحاجة لان تنقل الى مشفى عسكري في حيفا يدعى مشفى رمبام ،فرفضت على الفور ،ثم توجه الى احدى الدبابات واحضر عدة وحدات من الدم وجهاز خاص من اجل تزويدي بكميات من الدم وخاصة وان نسبة الدم كانت عندي وقتها 45% فقط !!.... رفضت بشدة ايضا ...انه امر مفزع كيف اتلقى الدم من الجيش المحتل الذي قتل ودمر وارتكب المجازر بحق اهلي وابناء مخيمي ،وقد بقي الجيش في المنزل عدة ساعات اخرى حتى جاء الصليب الاحمر الذي احضر الادوية وبعض المؤن .
الآثار النفسية والصحية والجسمية
وتتنهد السيدة حنان وهي تمسح دموعها التي غلبتها رغم بعد الذكرى والمناسبة وتقول :- انني دائما متوترة وعصبية منذ تلك الاحداث التي لا تغيب عن مخيلتي......... لقد راجعت عدة اطباء وزرت عدة مشافي لكن وضعي يزداد سواء يوما بعد يوم ........ الطبيب النسائي ابلغني ان وضعي النفسي افقدني القدرة على الانجاب، وتخلص السيدة حنان ابو الرب ان تلك الذكريات المريرة لا يمننكن نسيانها ولو لدقيقة ،لان ابني" احمد" الذي احبه كثيرا يذكرني بها في كل حركة منه ........ في نومه ... في انفاسه ......... في طعامه .... في كل حياته ،الا انني ارى فيه امل البقاء والحياة والصمود .